بعد ترك " بخيت" ديرته قفل لحضره وهو يسمع صدى ترديد الغيطان من حوله: "البت بيضه بيضه بيضه وأنا اعمل إيه.. ضيعت مالى على حالى وأنا أعمل إيه؟!"
توقف بخيت مصغيا لصدى الصوت ثم هز كتفيه مطأطئا رأسه واضعا يديه فى جيبيه وانطلق عائدا إلى منزله بعد أن فارق أقربائه فى قريته متأملا ما بين سكونها وصخب المدينة وانتقال المركبات وضجيجها ومن سيارة إلى سيارة حتى وصل بيته ودخل على أمه ناظرا لها بشفقة وعطف مخبرها أنه قضى مأربه من أقاربه فى الديرة وسيحزم حقائبه للسفر إلى أوروبا كما تعلم.
فدعت له قائلة: يحرسك ربى يا ضنايا ويسخر لك ولاد الحلال يساعدوك ويحموك، وشرع بخيت ينسق ملابسه فى حقيبته وينتقى من غرفته ما سيأخذه معه واختار معطف ثقيل يرتديه ليقيه برودة الطقس ومُصْلاته وبقية ملابسه، وداهم ظلام الليل الدامس المنزل.
قلق وحِيرة:
أنارت الأم المصابيح واستلقى هو على سريره لبأخذ قسطا من الراحة، ثم نهض لتناول طعام العشاء، وهو فى حالة قلق وحيرة؛ فاستقبل والدته شجيا طالبا منها الدعاء، وطمأنها أنه سيكون على مايرام حال أنها بخير؛ فتبسمت الأم بنظرة حانية على ابنها تنصحه بمواصلة راحته بعد تناول الطعام.
أطفأت أنوار الغرفة وأراح بخيت رأسه على وسادته ،وصدى صوت صديقه الحكيم يردد "نحن لا نزرع الصبار رغم انه أخضر، إلا أنه شائك وعلقم مر"؛ فاحذر يابخيت المشاكل وتجنبها، وأضمر حُسن النية وتحفظ من توابعها.
طريق المشاكل مبدوء بحُسن النوايا:
تذكر عندما كان فى أحد الأماكن النائية ليلا، ووجد امرأة ليس برفقتها أحد وطلبت منه مرافقتها للوصول إلى منزلها، وبدافع شهامة أولاد البلد، إستجاب لها وأركبها بجواره فى السيارة التى كان يقودها صديقه.
فى الطريق داهمته دورية شرطة راكبة؛ فأوقفت السيارة وطالب الضابط الركاب الثلاثة إبراز هويتهم، وسأل عن المرأة ومن تكون وعندما علم أنها لا تمت لكليهما بصله إندهش وشك فى الأمر وكاد أن يصطحبهما إلى قسم الشرطة وتحرير محضر بمرافقة مرأة ليست بذات صلة معه، وانتهى الموضوع بحل اللبس وإنزال المرأة من السيارة، رغم اعترافها بأنها شهامة، إلا أن الضابط اصطحبها بسيارته لإيصالها إلى ماتريد ضمانا لأمنها.
الوالدة تُعـد طعام الإفطار:
راح النعاس يداعب عينا بخيت إلى أن استغرق فى النوم وأقبل الصباح "وبخيت" نائم، ولم يوقظه إلا دفء الشمس النافذة من زجاج شباك الغرفة؛ فأجال بصره من مرقده؛ فلمح والدته تعد له طعام الإفطار.
نهض من فراشه ممارسا عادته اليومية الصباحية مُجهِّزا نفسه للسفر؛ فارتدى ملابسه وربت على كتف أمه وسط زفراتها وآهاتها، ودعائها الحار، وعينيهما مغرورقتين بالعبرات وبين ألأحضان الدافئة وأنينها الملتاع، ودّع بخيت والدته مكفكفا لدموعها ومجففا لدموعه من وجنتيه المتوردتين، وخرج ليصاحبه صديقه للوداع مخففا من معاناة السفر وآلامه.
إبحار السفينة:
أبحرت سفينة بخيت إلى أوروبا وعلى ظهرها طفقت تتداعى إليه الذكريات وتستمر عندما كان على أحد الفنادق العائمة فى نهر النيل وفى حفلة صخب سياحية رمق إحدى السائحات ترنو إليه متبادلا إعجابها بإعجابه، ولكنه لم يحرك حيالها ساكنا بيد أنه انسحب مع الموسيقى الصادحة متبادلا معها النظرات.
تبسم ضاحكا من هذه الذكرى، وأفاقه منها بعض رزاز الماء، المتطاير هنا وهناك على ظهر السفينة، وتوقفت ذكرياته على صوت صديق قديم تفاجأ به معه على ظهر السفينة.
مخاطبا له: أظن أنت أحمد ، فرد عليه بالإيجاب وكل واحد منهما قص قصته على الآخر، سبب وجوده فى ذلك المكان.
لقاء مع صديق قديم:
كليهما جمعهما البحث عن العمل فى مزارع "العنب"؛ فاتفقا على ألا يفترقا ويبحثان سويا على المطلوب المرتقب.
وصلت السفينة إلى بر السلامة وخرجا بخيت وأحمد منها إلى رصيف الوصول للمينا ثم وصما جوازيهما بالدخول من الضابط المختص ثم انطلقا إلى خضم الحياة وزحمة العمل واستقرا فى فندق مازال تحت الإنشاء مجتمعين بين جدرانه وتحت سقفه من لسعة البرودة المسائية ليرسما خطة البحث عن المزارع ومدى احتياجهما للعمل.
إتفاق العمل فى مزارع العنب بفرنسا:
بعد يومين اتجها إلى الحقول، فعثرا على مالك مزرعة فسألاه إذا كان يحتاج لعمال من عدمه؛ فالتقطهما يعملان فى مزارعــــــه لجنى الكروم؛ فهللا لذلك القبول، وإتفقا على أن يكونا ضمن مزارعيه وإعطائهم مبلغ من المال بصفة يومية، فضلا عن الطعام، والإيواء بالمزرعة فى احد هناجرها الخشبية المهيأة لهذا الغرض؛ فانفرجت أساريرهما، وأستلما معدات الجنى ،واستراحا فى غرفتيهما، ثم نهضا لمزاولة جنى الكروم.
الحُب الأول:
ذات يوم خرج "بخيت" بمفرده فى نُزهة للترويح عن نفسه من عناء الكد والكدح فى عمله، إذ به فى أحد محلات التسوق وجد فتاة جالسة تتعامل مع الزبائن بتحصيل النقود منهم ثمنا لمشترواتهم وتسليمهم ما اشتروه، وبُهت بخيت من رؤيتها، وراح يحملق فيها، وهو لا يخفى على نفسه أن ذلك الوجه رآه من قبل ولكن أين لا يتذكر؛ فوقف يقدح زناد فكره إلى أن تذكرها.
نعم !هى "باتريشيا" التى التقاها فى مصر فى الفندق العائم بالنيل بين الأقصر وأسوان وسط المناظر الخلابة على ضفاف النيل، وتجاذبا أطراف الحديث؛ فشرع يقترب منها رويدا رويدا، إلى أن تبينها تماما بعد أن شبَّه عليها.
اشتري قليل من مستلزماته، ليس إلا ليحتك بها، ودفع لها ثمن ما اشتراه، متقدما إليها، ورمقته بنظرة سريعة، ثم توقفت وراجعت نظراتها أيضا هى مُشبِّهة عليه؛ فتبسم الإثنين وعرفا كل منهما الآخر، ورفضت أخذ قيمة مشترياته؛ لكونه ضيفا عليها، وتواعدا على أن يلتقيا كلما سنحت الفرصة لكليهما.
يجب تسجيل الدخول لإضافة تعليق