About Author
أحدث المقالات
يونيو ١٠, ٢٠٢٣, ٢:١١ م - خديجة الوصال
يونيو ١٠, ٢٠٢٣, ٢:١٧ ص - Haneen Elgohary
يونيو ٩, ٢٠٢٣, ٦:٤١ م - خديجة الوصال
Author Popular Articles

المنتصرون

غربت الشمس وتلون الأفق بالشفق الأحمر، وطفقت جحافل الظلام تزحف لتنشر أجنحتها على الكون، وقرص القمر يتحرك رويدا رويدا متسللا إلى كبد السماء الصافية ،"وبخيت" يرقد في فناء مكشوف بمنزله يرقب كل ذلك متأملا الحياة في ليلة صيف يداعب فيها نسيم "الطياب" النخيل فتهتز راقصة على أوتار صفير الليل الهادئ.

أخذ الفتى يتقلب بين فكرهِ تارة وتأمله تارة أخرى ليحسم موقفه من سفره إلى "الخليج" وإبقاء والدته التي قاربت على الشيخوخة وحدها فانتهى قراره إلى السفر والكفاح، تجولت عيناه بحثا عن أمه في المنزل إلى أن رآها تعـد طعام الإفطار، وعندما اقتربت منه بالطعام إغرورقت عيناه بالدموع، وشرع في الحديث معها.

من رضى بقليله عاش

قائلا: أمي، أريد التحدث معك في موضوع سفري إلى"الخليج" أعمل هنالك بعد قلة مواردنا هنا فقاطعته الأم مذعورة صائحة ضاربة على صدرها: "الخليج"، ولماذا يا ولدى! من رضى بقليله عاش، فهدأ "بخيت" من روعه.

راح يربت على كتفها قائلا: سأعمل يا أمي، وأرسل إليكِ مصروفك الشهري وأكثر بإذن الله، فإني محتاج لمصاريف كثيرة منها الزواج والمعيشة، وبوِدِّى أشترى قطعة أرض تزود دخلنا مع الحياة.

فردت قائلة: إذا كان هذا يرضيك يا ولدى فتوكل على الله، إلتقم "بخيت" آخر لُقيمة في فمه، وأعقبها برشفة ماء ثم خرج لإنهاء إجراءات سفره وبعد أيام حزم حقائبه للسفر، وعانقت الأم ابنها عناقا حارا. 

قافلة الخليج

ثم أشاح بوجهه وقد تدفقت ينابيع الحب في قلبه لتراب وطنه المقدس، ولمينقذه من هذا الإحساس المتدفق سوى الارتماء في أحضان القافلة المُقِلّة له إلى" الخليج".

اتشح الكون بوشاح الليل الأسود وكأنه يُعـبِّر عن أحزانه الكامنة في أعماق نفسه من المجهول وما يترتب عليه، وصل "بخيت" إلى أحد منازل أصدقائه ، ووجد عمله في إحدى مزارع الأثرياء.

 مرت الأيام ودارت دورتها، وفى يوم انقــلبت به السيارة أثناء قضائه إحدى المهــمات، ولم يشعر بنفسه إلا في المستشفى وهو في حالة يُرثى لها، لم يفق منها إلا بإخلاصه في عمله وقبله فضل الله عليه فنهض مستوضِحا الموقف، فأخبروه بأنه كان على شفا الموت فحمد الله.

نشوب الحرب بمصر

وفى إحدى الأمُسيات و"بخيت" جالس بالمقهى يتأمل المارة وصوت المذياع المنخفض يردد الأغاني والأهازيج، وفجأة فاق على صوت الموسيقى "والمارشات العسكرية" والمذيع يُنبئ بنشوب اشتباكات حربية على ضفة القناة في الشقيقة مصر، ففارت الدماء وغلت في عروق "بخيت ".

جمال نهر النيل

وبرز هنا الحنين إلى الوطن مدثرا بحنين الأم، فعاد الفتى إلى مصر، منتشيا هاتفا: "ما أجمل نهر النيل شريان الحياة النابض فيك يابلدنا".

وانطلق رأسا ليتطوع في الجيش فيكون الدرع الواقي لبلده وأهله وعشيرته، فانخرط في سلك القوات المسلحة بين التدريب والعمل الشاق على ضفاف  قناة السويس الباسلة.

الخداع الإستراتيجى

بين التمويه على الأعداء بسكون الحال والإيحاء بعدم تفكير مصر فى الحرب، فهنا فريق يلعب وآخر يتسلى بمصاصته للقصب، ومنهم من يتغنى بالمواويل الشعبية والسمسمية، واستخبارات العدو ترصد ذلك، وتكتب عنه التقارير لترفعها إلى القيادات العُليا. 

نشوب حرب العاشر من رمضان

 فرسخت فى أذهانهم أن المصريين لن يحاربوا بينما كانت التجهيزات القتالية فى الخطوط الخلفية تسير على قدم وساق؛ لمباغتة الصهاينة، ودخل شهر رمضان المبارك من عام ثلاث وتسعين وثلاثمئة وألف من الهجرة وسارت أيامه إلى أن صاحبه شهر أكتوبر وفى السادس منه عام ثلاث وسبعين وتسعمئة وألف مع العاشر من الشهر الكريم تفاجأ الجميع بصفير المقاتلات الجوية المنخفضة إتقاءً لشر  إكتشاف المستشعر عن بُعـد لها، ومن ثم ملاحقتها من المدفعية المضادة - شاقة عنان السماء ،التي طالما صفق لها الجنود وهى عائدة من تأدية مهامها بنجاح، باثة الطمأنينة في نفوسهم، ثم رعد المدافع، وتدفق المياه، تشق الساتر الترابي، صانعة ثغرات امتداد الكباري عبر عرض القناة، وزمجرة الدبابات عليها، وتطاير شرارات قاذفات اللهب حـــــــارقة.

بخيت يضل طريقه

المعوقات النباتية والصبارية الشوكية والحيات السامة وتوابعها، وأصوات طلقات الآلى يتجاوب صداها مع الكون، يعقبها صيحات النصر "الله أكبر"، وخلال هذا الهجوم ضل "بخيت" طريقه ومعه بعض أفراد مجموعته بما فيهم جندى "اللاسلكى"، والليل يُرخى سدوله فأبلغوا قيادة الكتيبة التي أعطتهم أوامرها بالسير على ضوء الطلقات النارية الكاشفة في المساء؛ لتهديهم إلى الطريق القويم، وانطلقت الكاشفات متتابعة وراء بعضها البعض لتنير الممر الموحش للفتى ورفاقه، وهو مشغـول بالتنصت للبيانات العسكرية المنتصرة البيان تلو البيان، وتوقفت الطلقات الكاشفة مع ظهور خيوط الفجر الأولى، ووضح الطريق أمام المقاتلين، وبزغت الشمس مشرقة، مسقطةً أشعتها على دماء الشهداء، الممتزجة برمال سيناء الأبدية.

وعندما اقترب من كتيبته ورفاقه داهمهم كمين من العدو؛ فاشتبك الطرفان في قتال عنيف أبلى فيه الرفاق بلاءً حسنا، ثم تابعـوا سيرهم حتى تمكنوا من الوصول إلى قيادتهم بعد جُهدٍ جهيد ومعاناة شاقة، و"بخيت" دموعه متحجرة في مآقيها تكاد تصير دما من فرط حُزْنِهِ على شهداء النصر.

وإن جندنا لهم الغالبون

أدار ظهره للجبال مقطبا للأفق منصرفا مرددا بصوت خافت مخاطبا نفسه مصبِرا لها ولكن هو النصر "وإن جندنا لهم الغالبون"، فهذا ثمن العزة والكرامة وإنناالمنتصرون "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا، بل أحياء عند ربهم يرزقون".

المناوشات العسكرية:

إلا أن العـدو لم يرضخ للهزيمة الشنعاء التى مُنِىَ بها فكان يناوشهم عسكريا، وذات يوم فى مهمة عسكرية إلى إحدى المناطق على الساحل، ذهب "بخيت" إلى كتيبة به ليزودها بالجنود لحراستها بعد أن حُلت كتيبته، فى مسيرته إليــها لــم تدخــل الحــافــلة إلـــــى مــقرها، مما أدى إلى ســـيره وفصيلته على الأقدام فى رمال الصحراء للوصول إلى موقعهم الجديد.

 محاولة الوصول للموقع الجديد:

فوجئوا فى طريقهم بخيمة للشرطة العسكرية تطالبهم بالمبيت معهم لأن الطريق شاق وموحش، وتوجد عمليات قتالية صامته مع العدو، وقد أوشكت الشمس على المغيب، فأصر "بخيت" على مواصلة المسير للكتيبة على الساحل، متوغلا فى الصحراء مع رفاقه دون سلاح سِـــوى مخـاليهم التى تحـــوى أمتعــتهم يحملونها علــى أكتافهم، واستهدفوا بالضرب بحصيات من الرمال "بالنبل" دون أن يتعرفوا على مصدرها فى هذه الصحراء القاحلة الجرداء ذات الألوان الزاهية، ومع غروب الشمس وصلت الفصيلة للكتيبة  فـذهل "بخيت" عندما وجد جنودا وضباطا يتعايشون سلما مع ثلاثة من ضباط الجيش الصهيوني.

إستنكار بخيت للصهاينة

فاستنكر ذلك مكبِّرا الله أكبر، وعنفهم هائجا أن هؤلاء ليس لهم أمان بالوجود معهم، حاكيا لهم قصة محاولة قتل رسول الله ﷺ بالحجر من قبل يهود بنى النضير – وذلك بين تجهمهم وإشهارهم للسلاح فى وجه " بخيت" وتحفـــــــز المصريون للدفاع عنه وأفهمه رئيس العمليات أنها سياسة لتفادى شرورهم ثم قنصهم والإجهاز عليهم فالحرب خدعة، ثم سلّم فصيلته وسجلاتهم للقيادة ومنح الجنود ما يحمل من زاد شخصى ليتقوتوا به لفراغ الكتيبة من الطعام، فأخذوا يتراقصون حولها كما تتراقص السباع على وليمتها، وسخّر القائد أحد الجنود لمرافقة "بخيت" إلى  "الإشلاق للمبيت"  خشية إصطدامه بالألغام المبثوثة بالمنطقة منذ الحرب العالمية الثانية.

وهنالك مكان استراحة الضباط  كان منهم من يصلى، ومنهم من يتلو القرآن، وآخر راكع، وثان ساجد، فأنبأه أحدهم بأنهم مستهدفين لعمليات عدوانية بسماعهم لشفرات صوتية تتمثل فى أصوات العصافير وعواء الديابة وبخ القطط وإصدارها أصوات وكأنها صوت "شخير" وهمهمات صوتية مُبهمة مــن أعـلــى السطـــــح، مطالبة بمغادرة " الإشلاق" بصفته ضيفا سيعود إلى مقره صباح اليوم التالى، ناصحة وسط موافقة الجميع بملجأ آخر يقترب من موقف الحافلة التى ستقله عائدة إلى كتيبته بعد انتهاء مأموريته، فطفق عائدا مع مرافقه ووجدا جنديا فى كشك من الخشب يحمل مدفعا آليا متمنطقا بذخيرته.

يصيح الشهيد عليهما بدعوتهما لاحتساء الشاى معه فلبيا الدعوة وصافحاه وجلســــــا ينتظران الشراب بعد أن ولج ملجأه لتسويته وعندما تأخر دخلا لاستعجاله، فكان مذبوحا شهيدا بجوار موقده وقد سُرق سلاحه منه، ولا يعلمان من ذبحه فى هذه الهنيهة القليلة، ولم يريا أحد ،وكان الظلام زاحفا ينشر عتمته وكأنه حزين على ماحدث. 

إستدراج من قوات " الكوماندز"

واستأذن المرافق "بخيت" ليستلم خدمته الأولى "البرنجى" أمام الملجأ الذى سيحوى " بخيت"،  وبجواره تدحرج حجرا كبيرا من أعلى الملجأ الخرسانى فى اتجاهه، فطفق يُحَدِّث نفسه متسائلا: أهناك عفاريت فى مستهل الليل ! أم مجهول يترصدنى لمحاولة استدراجى للصعود إليه.

وعلى بعد مسافة منه رأى مقعدا بدون مسند يتحرك هنا وهناك ثم يختفى، فولج للملجأ وهو ملىء بالجنود لقضاء بقية المساء به مستلقيا على ألأرض تحت المسراج الزئبقى الأبيض مفكرا فى أحداث اليوم مستعجبا من الحصى المقذوف به.

وممن والجندى الشهيد المجزور وكيف جُزر؟! والمقعـد المتحرك وكيف يتحرك بدون محرك؟!.

ثم يرهف أذنه لأحد جنود الحراسة يُخبر حارس الملجأ بالإنتباه لوجود عمليات مجهولة من العدو والبحث عن ساتر يحميه من الهجوم، وبعد بُرهة وقد أتم الليل ظلامه الدامس وفجأة وأثناء التفكير فى تلك الأحداث، يظهر فردا أمام فوهة الملجأ من الخارج يرتدى لباس الغوص يُحَملِق فى " بخيت" مترددا فى مهاجمته بين الإقدام والإحجام  والآخر على ساحل البحر ينظر إليه متعجبا وقد التصق ظهره بالأرض ولا يوجد فى جسده متحرك سوى عينيه الناعستين تدور فى محجريها وخفقان قلبه، وبعـد هنيهة طُفىء المسراج من السخونة، حاميا له من الإستهداف الخارجى، وطفـــــق  "بخيت" يُسائل نفسه، لماذا يرتدى ذلك الشخص رداء الغـوص بينما نحن فى الصحراء؟!.

وقدح زناد فكره إلى أن تذكر أنه على ساحل البحر فلماذا لا تكون كل هذه العمليات مصدرها غواصة للعدو راسية فى العمق الساحلى، تُخرج مقاتلين "كوماندوز" فيطفون فوق السطح ومن ثم إلى الصحراء ينجزون مهامهم القتالية مموهـــين بلــــــون الرمال، صانعين لحفر برميلية يختبئون بها وبعــــد التنفيذ يعودون إلى غواصتهم مرة أخرى "ولا من شاف ولا من درى"؛ فاختمرت الفكرة فــى ذهــــــن "بخيت"، فاستجمع قواه قافزا قفزة النمر على فريسته منقضا على ذلك الغواص فى ظُلمة الليل، وراح يكيل له فى اللكمات حتى أفقده وعيه وكبّله بما معه من قيود، وأسلمه فى الصباح للقيادة، التى أقر أمامها بأن العمليات العسكرية التى كانت تُجرى فى الصحراء من جرّاء الغواصة الراسية على الساحل والأوامر هى الإشتباك الفردى وإستعمال السلاح الأبيض فقط  فى القتال  حتى لا يُسمع دوى الرصاص  لمعاهدة وقف إطلاق النار.

وانتهت مهمته ثم عاد إلى المدينة مع رفاقه وسط فرحة غامرة بين الورود وأكاليل الزهور وزغاريد الفرحة من كل حدب وصوب "المارشات" العسكرية تعزف موسيقى النصر والأناشيد الوطنية، والاستعراضات الدفـاعـية تسير بين صياح وتهليل الفرحين وتساقط الورود والرياحين على المنتصرين.

 

التعليقات

يجب تسجيل الدخول لإضافة تعليق

مقالات ذات صلة
فبراير ٢٢, ٢٠٢٣, ١:٥٧ م Yassin 24