أقبلت سحائب الخيرات والبركات، تزف بشائر الرحمات والنفحات، ورقص الكون مبتهجاً باقتراب موسم الطاعات والقربات، وشمر المسلمون عن سواعدهم لاستقبال شهر القيام والصلوات والأمنيات، ومضت شياطين الإنس والجن تسكب العبرات، وتأسف على ما فات، وتتحسر على ما هو آت، وتتمنى ولكن: "هيهات! هيهات!".
لو سألت الأموات في القبور عن أمنياتهم في هذه الأيام، لصرخت أرواحهم شوقاً نريد أن نشهد معكم نفحات شهر رمضان، ولو تتبعت أخبار الذين قضوا من الناس في شهري رجب وشعبان؛ لعلمت بأن أجل أمنيات الكثيرين منهم كانت تحلم ببلوغ شهر رمضان المبارك.
أدبر الليل البهيم وطــــــار مرتحلاً فتقعقعت أذنابه وجـــــلاً من الأنبـــاء
وصدى البشــــائر جلجلت خفقاتها وتمايلت أنغامها طرباً على الأرجــاء
ها قــــــد أتى شهر الصيام مبجلاً فتهللت بالنور والبركات آفاق السماء
اقترب وصول موكب هلال شهر رمضان المبارك 2023، وبدأت نسائمه العطرة والمبهجة والروحانية تزحف نحو قلوب وأفئدة وأرواح المسلمين في شتى بقاع العالم، حيث يحتفل المسلمون حول العالم بتلك اللحظة الفريدة من نوعها، ويأتي رمضان دوماً ليذكرنا ويعلمنا التقوى والصبر والتضحية والعطاء، ويدعونا لتجديد علاقتنا بالله عز وجل، وتحقيق النفحات الروحانية التي تنعش القلوب وتنفض الغبار عن الأروح المتعبة من عناء الحياة.
شـــــهر القيام والقرآن والصلوات شـهر العبادة والمحــبة والدعــــاء
شــــــهر البطولة والكرامة والإباء شــــهر العزيمة والإصـــرار والفداء
شــــــهر الإنابة والرضا والتضحيات شـهر المــودة والإحســــان والثناء
شهر رمضان المبارك أهم أشهر السنة الهجرية في الإسلام، حيث يصوم المسلمون في هذا الشهر الكريم من الفجر حتى غروب الشمس، وبالرغم من صعوبة الصيام في الظروف الحارة والساعات الطويلة، فإن المسلمين ينتظرون هذا الشهر الكريم بشغف وحب كبيرين، ويسعون جاهدين للاستفادة من فضله، وفي هذا الشهر المبارك، يتقرب المسلمون إلى الله عز وجل بالصوم والصلاة والصدقة والتوبة وسائر الأعمال الصالحة، ويتمتعون بروح التضامن والمحبة والتعاون، فيؤكدون بذلك للعالم بأن الله عز وجل يعلم السرائر ويكشف ما تكنه الضمائر، وأن كل المخلوقات خلقها وأمرها ومصيرها إليه.
أسباب محبة المسلمين لشهر رمضان المبارك:
ترجع أسباب محبة المسلمين لشهر رمضان المبارك إلي عدة أسباب، منها:
الأجر الكبير:
إن الله عز وجل تفضل على المسلمين بأنه يضاعف لهم الأجر في شهر رمضان المبارك، ويمنحهم أجرًا عظيمًا على التضحية بالطعام والشراب والراحة في سبيل الله. وقد ثبت ذلك في الكثير من الأحاديث النبوية، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غفر له ما تقدم من ذنبه"، رواه البخاري.
الطاعة والتقوى:
في صيام شهر رمضان المبارك فرصة لتقوية العلاقة بالله وزيادة التقوى، قال الله تعالى في كتابه الكريم: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، سورة البقرة، الآية: (183).
التكافل والتعاون:
شهر رمضان المبارك فرصة للتكافل والتعاون والتراحم، وتبادل الزيارات والإفطار بين الأهل والأصدقاء والفقراء والمحتاجين، وهذا ينعكس بدوره على الجانب الاجتماعي والروحي للمجتمع الإسلامي، ويزيد من الترابط والمحبة والسعادة الفرح.
الإحساس بالإنتماء:
يشعر المسلمون في شهر رمضان المبارك بالانتماء إلى جماعة المؤمنين والتفاعل معهم، ويتشاركون تجاربهم ويتألفون فيما بينهم، ويتم هذا من خلال حضور صلاة التراويح والافطار الجماعي ومشاركة الأسر والأصدقاء في وجبات الإفطار والسحور.
وفي دراسات احصائية حديثة، أظهرت النتائج بأن نسبة المسلمين الذين يحبون شهر رمضان المبارك تفوق 80%، وأنهم يرون أن هذا الشهر يمنحهم فرصة للتحسين الروحي والأخلاقي، ويدفعهم للتقرب من الله عز وجل، ويساعدهم على فهم وتطبيق قيم: (الصبر والتسامح والتضامن والعطاء).
أهم العبادات والعادات والتقاليد التي يمارسها المسلمون خلال شهر رمضان المبارك:
الصيام:
صيام شهر رمضان المبارك يعد فرصة حقيقية للتوبة والتطهير الروحي، ولذلك يقوم الكثير من المسلمين بالصيام الطوعي خلال هذا الشهر، حتى أن بعض المرضى والمسافرين الذين يرخص لهم الإسلام بالفطر في رمضان يصومون هذا الشهر الكريم، ويعتقد المسلمون بأن الصيام يزيد من الإيمان والتقوى، ويساعد على التحكم في النفس والاستقامة على الطريق الصحيح.
صلاة التراويح:
تُعد صلاة التراويح من أبرز العادات التي يمارسها المسلمون في شهر رمضان المبارك، وتتميز بأنها صلاة جماعية تقام بعد صلاة العشاء، وتستمر لمدة ساعة تقريباً، ويعتقد المسلمون بأنها تزيد من فرصة حبهم وقربهم لله عز وجل، وتنمي فيهم مشاعر الإيمان والتقوى.
الاعتكاف وليلة القدر:
ليلة القدر هي أفضل وأعظم وأجمل أيام الدنيا، وهي الليلة التي أنزل فيها القرآن الكريم من السماء إلي الأرض، وهي الليلة التي قال الله عنها في كتابه الكريم: { لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5) } سورة القدر، الآيات (3-5)، وهي ليلة لا يخفى فضلها وكرامتها وأجرها على مسلم عاقل، ويكفينا في فضلها ما رواه الإمام البخاري والإمام مسلم في صحيحيهما، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ).
لذلك يحرص كثير من المسلمين على الاعتكاف بالمساجد خلال العشر الأخير من شهر رمضان المبارك؛ لتحرى بركات هذه الليلة العاطرة، التي هي خير من الدنيا وما فيها.
الإفطار الجماعي:
يعتبر الإفطار الجماعي أحد أهم التقاليد الهامة في شهر رمضان المبارك، وتقام العديد من الأمسيات الرمضانية التي تجمع الأسر والأصدقاء في جو من الفرح والاحتفاء، وتتميز هذه الأمسيات بتناول وجبات الإفطار المتنوعة والمتواضعة، والتي تعكس روح التضامن والتكافل بين المسلمين في شهر رمضان المبارك.
قراءة القرآن الكريم:
يتميز شهر رمضان المبارك بأنه شهر القرآن، حيث يحرص المسلمون فيه على قراءة القرآن الكريم بشكل يومي، ويُعد هذا العمل من أهم العبادات التي يُمارسها المسلمون في هذا الشهر الفضيل، الذي هو موسم سنوي مبارك لحصاد الحسنات، ورفع الدرجات، وغفران الزلات، ومحو الذنوب والسيئات، ومن المعلوم أن قراءة القرآن الكريم تزيد من الثواب والأجر في هذا الشهر الفضيل.
التوبة والاستغفار:
يعد شهر رمضان المبارك فرصة للتوبة والاستغفار، ولذلك يقوم الكثير من المسلمين بالتوبة عن الذنوب والاستغفار من الله عز وجل، ويؤمن المسلمون بأن التوبة تجب ما قبلها، وأنها سبب في مغرفة الذنوب ومحو السيئات، وكذلك الاستغفار، فإن به تستمطر الرحمات، وتستجلب الخيرات.
العمل الخيري:
يتميز شهر رمضان المبارك بزيادة نسبة العمل الخيري والتطوعي، حيث يقوم الكثير من المسلمين بالتبرعات النقدية والعينية للفقراء والمحتاجين، وتتضاعف جهود الجمعيات الخيرية والمؤسسات الإنسانية في توفير الإعانات والمساعدات للمحتاجين خلال هذا الشهر الكريم.
والخلاصة:
أن شهر رمضان المبارك فرصة لتقوية الإيمان وتزكية الروح وتنقية القلب وتهذيب للجوارح، ومحفز لزيادة العبادة والتقوى، وفرصة للتعاون والتكافل، والترابط الاجتماعي والروحي بين الناس، وهو شهر مبارك يتطلع إليه المسلمون بفرح وسعادة وترقب، ويسعون جاهدين للاستفادة القصوى من فضله، فاللهم بلغنا شهر رمضان بصحة وسعادة وسلام، وأعنا فيه على الصيام والقيام وقراءة القرآن، وتقبله منا، ولا تحرمنا فيه من بركاتك ورحماتك، واجعلنا فيه من عتقائك من النار، آمين.
يجب تسجيل الدخول لإضافة تعليق