About Author
Hesham aboelmakarm
13 followers

أحدث المقالات
مارس ٢٥, ٢٠٢٤, ١٢:٤٦ م - حنين الجوهرى
مارس ٢٢, ٢٠٢٤, ١:٢٤ م - خديجة الوصال
مارس ٨, ٢٠٢٤, ١:٢٠ م - علي خريسات

مصر الجميلة في عمارة عم فخري

كنت محظوظاً في فترة دراستي الجامعية، ليس بكلية الحقوق جامعة أسيوط التي التحقت بها لأنني لم أعمل يوماً بالقانون، وإنما بالعمارة التي سكنت فيها، عمارة عم فخري.

تقع العمارة على ناصية شارعين بأحد الأحياء الراقية في مدينة أسيوط، شكلها مميز لأنها على هيئة مثلث، أحرص حتى الآن على التطلع إليها عبر نافذة القطار كلما زرت أسيوط، أجدها كما هي، وكأن 35 عاماً مضت لم تكن كافية لتغير من ملامحها شيئاً.

هنا -في عمارة عم فخري- قضيت ثلاث سنوات من أصل أربعة هي فترة دراستي، أربع شقق تحتل الدورين الرابع والخامس كان عم فخري يؤجرها لطلاب الجامعة، وأنا واحد منهم.

ما زلت أذكر ملامح الرجل، بشرته السمراء، بدين إلى حد ما، التجاعيد الواضحة توحي بأنه تخطى الستين من عمره، أول كل شهر يتحامل العجوز المسيحي على نفسه، ويصعد السلالم وبصحبته صبي صغير يحمل كشكولاً يسجل فيه الحسابات، يدخل إلى الشقة الأولى ثم الثانية، يصعد إلى الدور الخامس، تستغرق تلك الرحلة قرابة الساعة. يعود عم فخري بعدها إلى شقته بالدور الثالث، وتظل صفحات الكشكول بيضاء ناصعة، ويفشل صبيه في تسجيل أي حسابات في صفحة الإيرادات. بينما تشهد صفحة المصروفات تطوراً ملحوظاً، حيث يقترض كل منا من عم فخري ما يحتاجه، مبالغ تبدأ من خمسة جنيهات وقد تصل إلى عشرين جنيها.

عم فخري -عليه رحمة الله- على هذه الحال كان بالنسبة لنا (زبون لقطة)، وبعدما توطدت العلاقة بيننا وتطورت إلى علاقة أبوية، أصبحنا نستخدم تليفون منزله، ونستمتع بالدردشة معه، أحياناً يدعونا إلى العشاء، وأحياناً أخرى نتناول الطعام عنده دون دعوة.

هذه ليست كل الحكاية، ففي الدور الرابع تسكن مجموعة من أصدقائنا يشكلون خلية شيوعية، بعضهم كان ينتمي رسمياً إلى حزب التجمع، والبعض الآخر يمارس نشاطه دون إعلان، كان ذلك في أواخر الثمانينيات، أي في عز سطوة الجماعات الدينية في أسيوط، جامعتها وشوارعها.

أذكر أن زملاءنا الشيوعيين نظموا معرضاً لمجلات الحائط بالجامعة عن القضية الفلسطينية، فقام طلاب الجماعة الإسلامية بتحطيم المعرض، ومحور الخلاف بين الجانبين أن اليسار يرفع شعار (فلسطين عربية) أما التيار الديني فيرى أن (فلسطين إسلامية، لا شرقية ولا غربية).

وقد شهدت تلك الفترة تراجعاً ملحوظاً لليسار في الجامعات، حتى أن أصدقائي الذين أحدثكم عنهم قرروا ذات يوم تنظيم مظاهرة ضد الاحتلال الإسرائيلي، كان عددهم قليلاً لا يتجاوز عشرة أشخاص، تجمعوا في الموعد المحدد، وبدأوا يرددون الهتافات، ويجوبون طرقات الحرم الجامعي، كان الأمل يحدوهم في أن ينضم إليهم الطلاب، لكن ذلك لم يحدث، وظلوا يهتفون وحدهم حتى أثاروا سخرية الطلاب وضحكاتهم.

سطوة الجماعات الدينية كانت قد وصلت لذروتها، ولم يكن في الجامعات فصيل قادر على حشد الناس سوى التيار الديني، أما بقية التيارات فكان مصيرها الضحكات الساخرة.

لم يكن ذلك فقط هو سبب حزن وإحباط أصدقائي وجيراني من اليساريين، لأنهم كانوا يعودون من الجامعة، حيث تفرض عليهم الجماعات الدينية حصاراً شديداً، ليبدأوا فصلاً جديدا من الإحباط مصدره شرفة الشقة التي يسكنون فيها.

الشرفة تطل على مسجد (أبي الجود)، وهو مسجد شهير في أسيوط،  كان في تلك الفترة تابعاً لجماعة الإخوان المسلمين، وكنا -مثل سكان الحي كله- على موعد كل ثلاثاء مع يوم مفتوح بالمسجد، السجاجيد والحصر تحتل الشارع كله لمسافة تصل إلى 500 متر، أعضاء الجماعة يستخدمون دراجاتهم كمتاريس، يصنعون منها سياجاً يحيط بالمصلين، ويمنع مرور السيارات أو الأشخاص، سيارات الأمن المركزي تقف على أطراف الشوارع المؤدية إلى المنطقة على أهبة الاستعداد، ويتم تحويل مسار السيارات إلى شوارع بديلة.

يبدأ اليوم بعد صلاة المغرب، بخطبة يلقيها أحد قيادات الإخوان، وعلى رأسهم الدكتور محمد السيد حبيب رئيس نادي هيئة التدريس بأسيوط في ذلك الوقت، وكذلك وجدي غنيم وغيرهما، وبعد الخطبة يلقي أحد أعضاء الجماعة نشرة أخبار العالم الإسلامي، ويركز على أخبار المذابح التي يتعرض لها المسلمون في أنحاء العالم.

أذكر أنني استمعت إلى إحدى الخطب من شرفة شقتي بالدور الخامس، واستعرض الخطيب فضائل الإخوان المسلمين ومعجزاتهم في حرب فلسطين عام 1948، وقال ضمن ما قال:

بمجرد هجوم الإخوان على أي موقع لليهود كانوا يفرون -أي اليهود- وهم في حالة من الرعب الشديد،  يصرخون (الإخوان.. الإخوان.. الإخوان).

وبعدها بأيام جمعني لقاء مع أحد الطلاب المنتمين للجماعة، قلت له أن هذا الكلام غير صحيح، فأمن على كلامي، لكنه قال باقتناع كامل (يا أخي.. هذا نوع من التربية الفكرية)، سألته مندهشاً: لكن خطيبكم يكذب؟

فقال الطالب الإخواني: هو يستهدف بث روح الشجاعة والإقدام في الناس، ويشعرهم بقوة المؤمنين، ويظهر ضعف الكافر الذي يهرب مثل فأر مذعور، أمام قوة المؤمن وصلابة عقيدته.

لم أقتنع بالطبع بأن الكذب يمكن أن يكون وسيلة مشروعة، حتى لو كانت الغاية سامية، وإلا فلماذا يسخر الإخوان من بيانات تحطيم سلاح الجو الإسرائيلي في حرب 1967، والتي كانت الإذاعة المصرية تبثها يوم 5 يونيو، في الوقت الذي كانت فيه مطاراتنا قد تحولت إلى عجينة طرية بفعل الضربات الإسرائيلية المركزة؟

أليس الكذب هنا، هو ذاته الكذب هناك ؟ أم أن أكاذيب الإخوان حلال، وبيانات عبدالناصر حرام؟

هذه ليست كل مفاجأت عمارة عم فخري، والمفارقة ليست في صاحب عمارة مسيحي يرتبط بعلاقة أبوية جميلة مع طلاب جميعهم مسلمون، حيث لم يكن من سكان العمارة مسيحي واحد.

كما أن الطرافة لا تقتصر على شقة يسكنها طلاب يساريون نشطون، وفي مواجهتهم مسجد يديره الإخوان المسلمون.

المفاجأة الأكبر أن العمارة المواجهة لنا تماما كان يسكن بها مفتش مباحث أمن الدولة بأسيوط في ذلك الوقت.

وأشهد أنه كان رجلاً دمث الخلق، طبيعة عمله كانت تقتضي غيابه عن المنزل أغلب الوقت، وفي فترات الراحة كان يجلس على مقعده في الشرفة، دون أن يتعمد مضايقتنا، أو استغلال سلطته في مواجهتنا، خاصة وأن بعض زملائنا كان متخصصاً في معاكسة الفتيات، أثناء مرورهن أمام العمارة.

هذا لا يمنع طبعاً من أننا كنا نرى جنود (المراسلة) وهم ينظفون شقة الباشا، ويقومون بكافة الأعمال المنزلية، ويتحملون ضربات موجعة على ظهورهم من أبناء سيادته، ربما على سبيل الدعابة.

ومع مرور الوقت نشأت علاقة صداقة -عبر النوافذ فقط- بيننا وبين أولاد الباشا، الذين كانوا وقتها أطفالاً أكبرهم لا يتجاوز عمره 15 عاما.

ثلاث سنوات مرت وهذه المنظومة لم تتغير، حتى بعد أن مات عم فخري، وحل محله ابنه الذي لا يقل عنه أدباً واحتراماً، صحيح أن علاقتنا به لم تصل إلى حد أن يقرضنا نقوداً بدلا من أن يطالبنا بالإيجار، لكنه استمر على نهج والده، الذي أورثه الخلق الرفيع والأدب الجم.

ومع نهاية كل عام دراسي كنا نوصي عم فخري -وابنه من بعده- بألا يؤجر الشقق لأحد سوانا، فيترك لنا المفاتيح، ويصرح لنا بالمبيت في عمارته خلال الإجازة الصيفية إذا حضرنا لأسيوط في أي وقت.

ظل الإخوان حتى أنهيت دراستي يقيمون ندواتهم يوم الثلاثاء، واستمر أصدقائي اليساريون على ولائهم لمبادئ الاشتراكية، حتى تفرقت بهم السبل، وشغلت الحياة بعضهم فأصبحوا مجرد متعاطفين، بينما أكمل البعض الآخر مسيرته، وأصبح عدد منهم يشغل مواقع تنظيمية مهمة في حزب التجمع، وحتى رحلنا عن أسيوط وأيامها الجميلة، كان مفتش أمن الدولة يسكن في شقته، يجلس في الشرفة يوم راحته ليشرب الشاي، يذهب إلي عمله ويعود، دون أن تحرسه مدرعات أو يضطر جنوده لغلق الشارع.

وفي المرات القليلة التي سافرت فيها إلى أسيوط كنت حريصاً على متابعة عمارة عم فخري من نافذة القطار، مرة واحدة ذهبت إلى هناك ومررت أسفل العمارة متطلعاً إليها، سألت زملائي بعد ذلك عن سر شرفاتها المغلقة دائماً، فقيل لي أن نجل عم فخري يرفض تأجيرها، وبرر البعض ذلك بأن جهات أمنية أبدت تحفظها على سكن طلاب الجامعة في هذه العمارة بالتحديد، ورغم عدم وجود دليل علي ذلك إلا أنني أجدني ميالاً لهذا التفسير، حيث أن أحداث العنف والإرهاب قد اشتعلت بأسيوط والمنيا في أوائل التسعينات بعد رحيلنا عنها، وأصبح رجال الأمن أهدافاً في قوائم الاغتيال التي أعدتها الجماعات المتطرفة.

لقد كنت محظوظاً لأنني رحلت عن أسيوط قبل اشتعال أحداث الإرهاب. عشت في عمارة عم فخري سنوات هي الأجمل في عمري كله حتى الآن، كان أغلب سكان العمارة من زملائي مثقفون ومسيسون، عرفت معهم الطريق إلى قصر الثقافة، مصنع الأدباء في ذلك الوقت، حضرت هناك أول ندوة أدبية في حياتي، بدأت كتابة القصة القصيرة وتتلمذت على يد أدباء كبار، كانوا ومازالوا حتى الآن ملء السمع والبصر في أوساط المثقفين، حتى وإن لم يحققوا شهرة كبيرة. بدأت أختار بعناية ما أشاهده في السينما والمسرح، والأهم والأجمل من ذلك كله، أنني شاهدت كيف كان عم فخري -المسيحي- أباً حنوناً، لحوالي 16 شاباً مسلماً مغترباً، ورأيت -وهذا من فضل ربي- مسؤولاً كبيراً في مباحث أمن الدولة يتعامل مع الناس بلياقة وأدب، ويرى شباباً يقفون في الشرفة المواجهة لشقته (بملابسهم الداخلية)، فلا يأمر باعتقالهم. اكتشفت أكاذيب الإخوان وعشت إحباط اليسار، لتظل عمارة عم فخري مثل مكان أسطوري، يداعب مخيلتي، كلما بحثت في الذاكرة عن أيام جميلة أو عن مصر الجميلة التي تمنيت أن أعيش فيها عمري كله، أو ذكريات رائعة.

التعليقات
Mohammed Abdo Ahmed Mohammed Ali - يوليو ٣١, ٢٠٢٢, ٦:٥٢ ص - إضافة رد

mohmmadalsabry

يجب تسجيل الدخول لإضافة تعليق

يجب تسجيل الدخول لإضافة تعليق