في طريق الإنسان نحو الحياة لابد له من تجربة شيءٍ جديدٍ كلَّما سنحت له الفرصة لذلك، تجانسًا وتناغمًا مع تكوينه الذي فُطر عليه منذ الأزل، كفضول آدم يدفعه لأكل الثمرة، وموسى طفلٌ رضيع يمسك الجمرة انسيابًا وضياعًا مع توهجها، لكننا -وفي معظم الأحيان- حين تجبرنا الحياة على تجربة الجديد، حين تمسكنا وتلقي بنا في بحرها الواسع فننغمس في المغامرة ونغوص مجبرين، نبدأ رحلتنا في فهم أعماقها، تلك التي لن يفهمها جميعنا بذات الطريقة.
إنه لمن السهل على المرء أن يكمل خطًا بدأ برسمه، ذلك أنه يعلم الاتجاه الذي يفترض به السير نحوه، لكن الأمر الصعب هو تحديد نقطة البداية، كأنك تقع في دوامة من الأفكار، وكلُّ واحدةٍ منها تأخذ منك ما يزيد ولا يقل، فلا تعلم أي الوجهات أصح، وأيها أكثر سلامة، لكنك تعلم أمرًا واحدًا، وهو أنك مجبرٌ على رسم الطريق، والسير بضع خطوات فيه دون السماح لأي رغبة بتغيير هذا الاتجاه حتى يثبت فشله. نبالغ في نبذيرنا، نقوم بتجربة كل شيء، وكل شخص، القاصي منه والداني وكأننا نمتلك أكثر من حياة، ونعيش أكثر من عمر، ولكن ما نملكه في الواقع هو بضع ساعات تمر كرمشة عين. أنت تفتح عينك صباحًا لتغرق في أمرٍ ما، وتخرج منه صباح اليوم الذي يليه لتعود وتنغمس دون أن تدرك حتى أين انفلت منك كلُّ هذا الزمان، فلا تمسك هذه اللحظات، ولا تعيش الحياة.
الكلمة الأولى في النص تملكك، تحرك يديك، وتمشي خطواتك عنك، وتفعل بك كلَّما أقدمت على فعله إلى الآن، فتوجه الفكرة التي داخلك، تجرها وفق تيارٍ محدد، تبدأ بترتيبها، وجر بضع كلمات أخرى معها، حتى إذا وجدت أن ما يتبعها من التعابير قليل، أعرضت عنها ورسمت عليها خطًا عريضًا مليئًا بالاستياء على كلِّ حرفٍ كتبته من البداية وحتى النهاية. تجرب حظك بعدها مع بنك آخرٍ من الكلمات، ربما تفشل مرارًا، لكن يجدر بك أن تجد طريقة تخرج بها تلك الفكرة الصارخة داخل قضبان عقلك، والتي لا تنفك ترسل إليك الأوامر لتحريرها، سجينٌ يسجن مالكه.
وتتداول أنت الحياة بهذا الشكل، فتشعر أن الوصول إلى النهاية أو حتى مجرد الاستمرار هو الأصعب، وأنت هنا ترتكب خطأ فادحًا بظنٍ كهذا، فعلى أقل تقدير سيرى الناس أثرًا لمحاولتك، سيدفعك تشجيع هذا، ويزيد ذاك من عزيمتك، فأنت إذًا أطلقت شرارة البدء. أمَّا عمن ظل واقفًا خلف تلك البداية ورفض الانغماس في التجربة، فلا يفيده من الأمر إلا صداعٌ تورثه تلك الفكرة في رأسه.
ولكنني لا ألوم من لم يبدأ، فما حيلة المرء إن كان عاجزًاإذ ظل دون كلمات، أو بهتت ألوانه، وتجمدت أصابعه؟ ماذا يفعل إن وضعته الدنيا نُصبَ عينيها، ومنعت عنه أي وسيلةً يرى بها الأمل؟ أيجدر بنا دائمًا أن نحاول؟ أم أنه من الفضيلة أن نترك أنفسنا لتيارات الأيام الخاطفة، ونضيع أنفسنا في زحمة الشوارع الواسعة، ونتجنب أن نسير عكس التيار حتى لا تعيدنا اللكمات والتيارات المعاكسة إلى نقطة الصفر مرةً أخرى؟ أن نقف حيرى وأن نثبت للتاريخ ألا جدوى من المحاولة، وأننا لاشك منهزمون يومًا وخاضعون لدستور الحياة. نقاسي التعب والهوان، نهرب من حقيقة أنَّ هذا الوهم فقط داخل عقولنا، وأن للحياة زاوية أخرى لم نمنح أنفسنا فرصةً لرؤيتها.
هناء خريسات.
ولكنني لا ألوم من لم يبدأ، فما حيلة المرء إن كان عاجزًاإذ ظل دون كلمات، أو بهتت ألوانه، وتجمدت أصابعه؟ ماذا يفعل إن وضعته الدنيا نُصبَ عينيها، ومنعت عنه أي وسيلةً يرى بها الأمل؟ أيجدر بنا دائمًا أن نحاول؟ أم أنه من الفضيلة أن نترك أنفسنا لتيارات الأيام الخاطفة، ونضيع أنفسنا في زحمة الشوارع
المقال جميل جدا مكتوب بطريقة مريحه استمر
شكرًا لك
good
thank you
يجب تسجيل الدخول لإضافة تعليق