جد ما يرمم روحك

"فإنك حتى لو جُبت بقاع الأرض جميعها لن تجد ما يرمم روحك كما ستفعل أنت".

لغزُ البارحة وسر اليوم وتفصيل الغد، والحلم الذي نُحرم النومَ في سبيل تحقيقه، لأننا نعلم أن إمساكه يحتاج أن نترك الراحة أحياناً كثيرة.

في معركة ترمى فيها سهامٌ من أفواهٍ لا تجيد في الحياة شيئاً، على كلِّ عثرةٍ نتعثرها في محاولاتنا أو عيب يعيش معنا حربًا لا تهدأ رغبةً في تحررنا منه، في ضعفنا الذي لا يشفي غليلًا لأحلامنا، ما مقدار ما أستطيع فعله بهزالتي في بداية خط حياتي؟

سَقطتَ البارحة وبكيتَ من ألمٍ ظننته بسبب إحساس أعصابك بشيء ما، لكنه ليس بالألمٌ الجسدي الذي تظن، بل هو تعجبٌ من نفسك واستنكارٌ لما حدث. كيف يمكن للحياة أن تدفعني للسقوط؟

تمر بعدها لحظاتٌ كثيرة أو قليلة، ثم تعاود السقوط مرة تلو أخرى، لكنك في تلك المرات حين تقف في ذات الموقف وتعيش نفس الدور -إن لم تكن قد تعلمت تجنبه- لن تبالي، وستعلم بقية السيناريو فلا يطول وقوفك عند ذاك الحد، وستنتظر ألمًا أكبر يُبكيك مرة أخرى ويزيد خبرتك في الحياة ويقوي بنيتك لتحديها.

ذات يومٍ أخفقتَ في أمرٍ راهنتَ على نجاحه بكلِّ ما تملك، كنت قد راهنت جميع الحاضرين؛ من عرفت ولم تعرف، من يبالي ومن لا يفعل، ثم شعرت بالخزي بعد أن أدركت حتمية فشلك، وذهبت وراء الستائر تخفي تجردك الذي صرت عليه وخساراتك الفادحة. كأن الستار سيخفي الانطباع عنك أو يسترُ لمعةً كانت قد توهجت في عينك وأنت تخبرهم بحتمية وصولك، وكأنه سينفي فشلك عنك، كأنه تهمة أنت أمامها بريءٌ كل البراءة، لكنك كالعادة مخطئ. في كلِّ وجهٍ تراه ستدرك حجم فشلك، وفي كلِّ انعكاس لك ستحاول لكمَ نفسك، لأنك -على حد اعتبارك- أنت السبب في هذا الفشل، وتنسى أنه من المرجح أن تخطئ، وأن العيب ليس مقترنًا بالخطأ ذاته، بل يرافق الخضوع له، وعدم محاولتك التغلب عليه مرة أخرى.

ستقول: تركني الأصدقاء، ستلومهم وتنسى أنك قد بالغت في بعدك عنهم أو ربما قربك، وأغلقت فؤادك عن سماع شكواهم أو صدّعت أفئدتهم بشكواك، وضللت عقلك بأنك شخصٌ لا يمكن التخلي عنه وبأن ما بينكم لا يمكن كسره، ونسيت أن جمع خططكم وأحلامكم وحتى ذكرياتكم ليست حبالًا وثيقة. لقد فعلت ذلك مرات عدّة، وعُدت تكرر الخطأ دون أن تتساءل عما إذا كان العيب فيك أم فيهم، ربما كان عليك التوقف قليلًا ودراسة تلك الخطط الألف الفاشلة، لتتمكن من النجاح في الواحدة بعد الألف، لكنك لم تفعل، وأعلم أنك لن تفعل. أنت تزداد تكبرًا كلما تُركت أو تزداد انطوائية، تقول أن القمة لا تتسع سوى للقلة أو تشك في قابلية الناس وحبهم لك، لكنك لست من القلّة بفعلك ذلك ولست منفيًا أيضًا، فما نحن دون الناس، وما الناس دوننا، ولو كان الأمر حقيقةً لما ورثَّ الله آدمَ نسلًا لا يزال يمتد حتى خُلقت، ولن يقف حتى يأذن من بدأه.

ثم نسيت نفسك وانشغلت بالآخرين، أيُّ ذم تسمعه تلصقه في جدار قلبك حتى يضخ مع كلِّ نبضة إلى جميع ذراتك، فلا أنت تخرج من دوامة ما قيل، ولا أنت حرٌ بما صنعت، بل تعيش ذليلاً بما اخترت. فأينما وضعت تلك النقطة في قلبك أخرجها. وأينما رأيت ذمًا من أحد غلفه بالهدايا وأعده لصاحبه دون أن تحدث ضجيجًا في نفسك، فلا يهمك ما يحكى ومن حكى، لأنه لا أحد أنت.

ثم تقرر بعد ليلٍ طويل أن الفجر آن له أن يظهر، فتركب أمواج البحر كأنها حصان جامح القوى، وتلف الصحاري كالإبل، بل أقسى. تحتمل الشمس وتأكل الصبار فتروى، وتسير فوق الجمر دون أن تدرك بأنه لظى. تبحث عن فجرك فلا تجده، فتعود إلى ظلامك الدامس بعد تلك الليالي التي عانيت فيها باحثًا عن هدف، وتنسى ما عايشته من أجله، لأنك ظننت أنك بحثت في كلِّ جانب، والحق أنك فعلت، لكن دون أن تنظر إلى مكان واحد، ليس انعكاس صورتك في المرآة ولا كلامُ المارة وما يعرفه الناس، بل قطعة صغيرة ترقص داخلك دونما كلل، تنشدك أن تنظر إليها لكن صوتها صامت. إنها تحتاج شخصًا يرى ما لا يُرى ويسمع ما لا يسمع، ويشعر بها لأنها هو.

فإن وجدت ضالتك الآن، فلن يعنيك العالم بجمع سكانه، ولن تخشى أن تموت جوعًا أو أن تضحى سلطانًا.

وإن أردت بعد الآن دواء، فإنك حتى لو جبت بقاع الأرض جميعها لن تجد ما يرمم روحك كما ستفعل أنت.

هناء خريسات